28/01/2023 - 23:07

حوار مع د. عروة سويطات | حيفا والحفاظ على ما تبقى من المدينة الفلسطينية

د. عروة سويطات: "هذه الشركات ترى بالإرث العربي الفلسطيني عائقا أمام البناء العقاري وزيادة الأرباح وهي تتقاطع بذلك مع السياسة التي تستهدف محو تاريخ المكان، بينما نراه نحن مكونا لهويتنا وجذورنا وحقنا".

حوار مع د. عروة سويطات | حيفا والحفاظ على ما تبقى من المدينة الفلسطينية

مبان تاريخية في وادي الصليب بحيفا (أرشيف عرب 48)

في وصفه للبلدة التحتى لحيفا يقول مخطط المدن، عروة سويطات، إن الظاهر عمر شيّد هذه المباني بمحاذاة الشاطئ، قبل أن يقوم الانتداب بتجفيف البحر وبناء شارع الملوك، وهو بناء فلسطيني (قد يسميه البعض عثماني أو شرقي)، لكنّه يمثل العمارة الفلسطينية التي ارتبطت بمشروع الظاهر عمر الحداثي في فلسطين وما تبقى من هذه المباني هي أشلاء المدينة الفلسطينية بعد النكبة.

وقد تعرضت هذه المباني بعد التدمير إلى تجاهل وتهميش، فلم تدخل في السوق الحرة كي يصار إلى صيانتها، سيّما بعد ما جرى من تحول في المنطق القانوني السياسي الإسرائيلي تجاه الأرض والحيز وبالتالي تجاه التخطيط، حيث قامت الدولة ومؤسساتها بالسيطرة على أملاك اللاجئين لصالح الخصخصة، وقد كان لهذا التحول إسقاطات مباشرة على المركز التاريخي الفلسطيني في حيفا، حيث باتت تُباع آثار النكبة، خاصة في العقد الأخير، تحت غطاء القانون.

ويرى سويطات في ذلك نماذج حيّة للسياسات الاستعمارية التي تفرّغ المكان من معناه السياسي ثم تحتويه من جديد بمنطق نيوليبرالي اقتصادي من خلال مشاريع سياحية وتجارية، حيث يتم بهذه الطريقة تحويل الوطن المنكوب، إلى مكان كوني، الأمر الذي يضفي شرعية على المشاريع الرأسماليّة التي تدمّر الأصلاني وعلى النيوليبراليّة التي تغطّي آثار الجريمة.

ويرى أن أقل ما يمكن فعله تجاه مدينة الظاهر عمر التي مرت بجريمة كبرى، هو الاعتراف بما تبقى من أشلائها بعد أن تعرضت للهدم بالكامل، والتصدي لجريمة طمس وهدم ما تبقى لاستكمال، إنكار التاريخ ومحاولة سرقة الموروث وتشويه المكان، وما أحاول القيام به هو أن أستحضر صوت المدينة المفقودة والمنكوبة، رغم أن ذلك لا يخفف من وجع فقدان المدينة.

مبان تاريخية في وادي النسناس بحيفا (عرب 48)

وهو عندما يتحدث عن الهدم والطمس، لا يتحدث فقط عما حدث في سنوات النكبة وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وإنما عما حدث قبل ثلاث أو أربع سنوات أيضا، في هدم وادي الصليب والتشويه الكبير الذي صار، من خلال تواطؤ البلدية وأقسام الهندسة فيها مع مطامع شركات يهمها فقط الربح المادي، ولا يهمها التاريخ ولا السياق المجتمعي، ولا توجد لديها طموحات مستقبلية لإحياء المكان، في حين أن القوى السياسية (العربية) التي كانت على مدار عقود في الائتلاف البلدي تجاهلت هذا الموضوع، ولم تكترث للموروث التاريخي.

ويشير سويطات من موقعه كمخطط مدن إلى أنّ التجدّد المدينيّ في حيفا يجب أن يشمل أهدافًا اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة عادلة، تحافظ على مركَزيّة المعالم الفِلَسطينيّة والأوقاف العربيّة ومصالح السّكّان العرب المختلفة، وتدمجنا في التّطوير وتعزّز حقوقنا، وتحترم تاريخ المدينة الفِلَسطينيّة وتحوّل الأحياء التّاريخيّة العربيّة، من أحياء مهمّشة إلى مراكز تاريخيّة وثقافيّة متطوّرة، ومراكز جذب اجتماعيّ وسكنيّ وسياحيّ وثقافيّ في المِنطقة، دون المسّ في حقوق السّكّان أو تغيير نبض المكان وهويّته.

سويطات الذي يشغل منذ بضع سنوات عضوية لجنة المباني التاريخية في بلدية حيفا، كشف مؤخرا عن مخطط يستهدف عددا من المباني التاريخية في البلدة التحتى بينها المسجد الصغير المسمى أيضا بمسجد السوق، لصالح إقامة مشاريع سكنية وخدماتية.

وحاور "عرب 48"، د. عروة سويطات، لإلقاء الضوء على هذه المخططات ومحاولات التصدي لها وإحباطها.

"عرب 48": نشرتم عريضة احتجاجية ضمت مئات التواقيع دعوتم الأهالي بالانضمام اليها، وهي تطالب اللجنة اللوائية للتنظيم والبناء بعدم المصادقة على مخططات تبتغي هدم مبان تاريخية والمس بالإرث التاريخي لمدينة حيفا والالتزام بقرارات اللجنة البلدية للمحافظة على المباني التاريخية، وعلمنا أن النجاح حالفكم في إبعاد شبح الهدم، ما هي طبيعة هذه المخططات وما هو تأثيرها على ما تبقى من أثر عمراني فلسطيني للمدينة؟

د. عروة سويطات

سويطات: بالأحرى هناك 3 مخططات تستهدف هدم أو المس بمباني تاريخية في البلدة التحتى، الأول والذي جرى مناقشته في اللجنة اللوائية مؤخرا، وحققنا نجاحا معينا في إبعاد شبح الهدم عن المباني التي يستهدفها، هو مخطط "ميدتاون" ويهدف إلى إقامة ثلاثة مبان يتألف كل منها من عشرة طوابق وتضم 236 وحدة سكنية، وسيؤدي تمريره إلى هدم خمسة مباني تاريخية كائنة في "شارع يافا" و"جادة الملوك" هي ما تبقى من أشلاء المدينة الفلسطينية المهدومة في البلدة التحتى.

الشركة المبادرة لهذه المباني حاولت الالتفاف على قرار اللجنة المحلية التابعة للبلدية وعلى لجنة الحفاظ على المباني التاريخية التابعة للبلدية، الذي ربط مسألة الموافقة على مخطط البناء الجديد بالحفاظ على المباني التاريخية الكائنة في الموقع وضرورة دمج تخطيط البناء الجديد بالحفاظ على هذه المباني.

هي قامت بإعداد مخطط يتم بموجبه هدم أربعة مباني ويبقى مبنى واحد فقط وقدمته إلى اللجنة اللوائية بصفتها لجنة أعلى من اللجنة المحلية التابعة للبلدية، مستغلة فسحة في القانون تمكنها من ذلك، في محاولة للإفلات من شروط البلدية ولجنة الحفاظ على المباني التاريخية التي تلزم الشركة بالحفاظ على المباني التاريخية وعدم هدم أي منها.

من جهتنا قمنا بتقديم اعتراض يكشف تلاعب الشركة ومحاولتها خرق الالتزام بالحفاظ على المباني التاريخية، وحظينا بدعم كامل من البلدية ورئيستها لموقفنا، حيث حضر مهندس البلدية إلى جلسة اللجنة وأكد أن الموقف الذي نطرحه فيما يتعلق بضرورة الحفاظ على المباني التاريخية هو موقف البلدية.

وفي النهاية قررت اللجنة تجميد مناقشة المخطط لأن القطار يعتزم القيام بتخطيط هو عبارة عن إقامة سكة حديد تحت الأرض سيكون لها تأثير على كل التخطيط في المنطقة، وحسب قانون التخطيط والبناء الإسرائيلي فإن القطار هو سلطة أعلى من اللجنة اللوائية وهو يستطيع ان يؤجل أي تخطيط يجري الإعداد له في المنطقة إلى ما بعد إنجاز مخططه.

وقد كان للضغوط التي مارسناها على البلدية والتي بدورها ضغطت على القطار، باتخاذ موقف حاسم وقاطع بهذا الشأن أثر كبير في إخراج هذا القرار إلى حيز النور.

"عرب 48": وماذا مع المخططين الآخرين؟

سويطات: المخطط الثاني الذي كشفنا عنه هو إقامة مبنى يتألف من 27 طابقا بمحاذاة "المسجد الصغير" الذي يسمى أيضا بمسجد السوق أو مسجد الزاوية، وقد تأسس على يد الظاهر عمر عام 1861 ويعتبر من أقدم المقدسات في حيفا، حيث جرى هدم جزء منه سنة النكبة وفي عام 1974 كانت هناك محاولات لاستكمال هدمه لولا فزعة الأهالي التي منعت ذلك، وهو مغلق منذ عام 1948 ولم تفلح حتى الآن جميع الدعوات والمطالبات بإعادة فتحه.

ويهدف المخطط المزمع إقراره لإقامة مبنى يتألف من 27 طابقا يشمل السكن والخدمات ويضم 255 وحدة سكنية، والمفارقة أنه تمت تسميته "عمارة المتحف"، وسيهدد المخطط المسجد من خلال بناء مداخل مصفات للسيارات تحت الأرض عبر ساحات المسجد والقيام بأعمال بناء تحت وفوق الأرض، من شأنها أن تؤثر على أساسات المسجد ويمكن أن تهدد المبنى على ضوء حساسيته الهندسية والمعمارية وأهميته التاريخية والدينية.

هذا المخطط كشفنا عنه عند تقديمه إلى لجنة التخطيط والبناء وقمنا بتجنيد لجان الأوقاف التي قدمت احتجاجات لبلدية حيفا، التي قامت بدورها إثر تصاعد الاحتجاجات بإزالة الموضوع عن طاولة اتخاذ القرار وألزمت الشركة بتنسيق وملاءمة التخطيط وفق مطالبنا وتجميد أي تقدم في الموضوع دون موافقة مسؤولي الوقف.

"عرب 48": في هذه الحالة أيضا حاولت الشركة الالتفاف على لجنة الحفاظ على المباني التاريخية وعلى البلدية عن طريق تقديم المخطط للجنة اللوائية؟

سويطات: وفي هذه الحالة أيضا قدمنا رسائل احتجاج على المخطط إلى اللجنة اللوائية وكذلك فعلت لجان الأوقاف، وما زلنا نشكل ضغوطا على اللوائية بأن تقوم بإلزام الشركة المبادرة بمطالبنا الهندسية والتخطيطية.

أما المخطط الثالث، فهو هدم بيت سكرتير الوقف التاريخي (مصطفى أبو حسني) في وادي الصليب، ويقع في "درج إربد" في حي وادي الصليب، وهو مخطط تم رفضه أيضا في لجنة المباني التاريخية، حيث طالبنا بالحفاظ على المبنى التاريخي، والشركة قامت أيضا بخرق قرارنا وقدمت مخططا بهدم المبنى جرى تقديم اعتراضات ضده في اللجنة المحلية التابعة للبلدية التي رفضته.

واستأنفت الشركة على القرار للجنة الاستئنافات اللوائية والأخيرة رفضت الاستئناف على ضوء قرارنا بسبب خرق المخطط لقرار لجنة المحافظة على المباني التاريخية، وطالبت لجنة التخطيط والبناء بالحفاظ على المبنى التاريخي بالكامل.

هنا أيضا حاولت الشركة المبادرة القيام بعملية التفاف عن طريق اللجنة اللوائية، فيما سنحاول بدورنا تشكيل ضغوطا على اللجنة بالتعاون مع لجنة أمناء الوقف التي بعثت برسالة إلى ما يسمى بحارس أملاك الغائبين تحتج فيها على بيع هذا العقار لشركة خاصة، لأن كونه بيت سكرتير الوقف يعني أنه أملاك وقف وبالتالي فإن عملية بيعه غير قانونية.

"عرب 48": من الواضح أن هذه الصفقات تندرج في سياق عام سبق أن تحدثت عنه يستهدف محو الإرث التاريخي للمدينة الفلسطينية، أو ما تبقى منها، وهذا يجري في حيفا ويافا وعكا وغيرها من المدن التاريخية، وهي سياسة تستكمل في عصر النيولبرالية بأيدي شركات خاصة؟

سويطات: مثلما أن هناك عنصرية بن غفير الفظة والمكشوفة والمباشرة، هناك العنصرية المبطنة التي تتغطى بمصطلحات التجديد والتطوير والمشاريع والتي تحمل في طياتها التوجه الاستعلائي الاستشراقي وتتعامل مع الإرث الفلسطيني العربي كتهديد.

عمليا هذه الشركات ترى بالإرث العربي الفلسطيني عائقا أمام البناء العقاري وزيادة الأرباح وهي تتقاطع بذلك مع السياسة التي تستهدف محو تاريخ المكان، بينما نراه نحن مكونا لهويتنا وجذورنا وحقنا وحق الناس التي عاشت فيه والناس التي نريدها أن تبقى فيه ونرى فيه تاريخنا الوطني ومستقبل الأجيال القادمة.

هنا يعتمل صراع على العدالة، فنحن نرى بأن الحفاظ على الإرث التاريخي هو حق له الأولوية، وأن التخطيط يجب أن يكون عادلا ولا يمكن التطوير في بلدية حيفا دون الحفاظ على الإرث التاريخي ومنع الهدم والطمس الذي تعودنا عليه منذ عقود.

"عرب 48": الجديد هو موقف إدارة بلدية حيفا الجديدة التي تدعم هذا التوجه وهو ما يجعل هذه الشركات تلجأ لطرق التفافية لتمرير مشاريعها المنسجمة مع السياسة العليا؟

سويطات: موقف رئيسة بلدية حيفا غير مسبوق وينبع من كونها مخططة مدن ومؤمنة بهذا التوجه، وترى أن الإرث التاريخي مهم جدا في حيفا ويجب الحفاظ عليه، وقد منحتني تفويضا كاملا بأن أقود هذه العملية، ودعمتني في لجنة الحفاظ على الإرث التاريخي التابعة للبلدية والتي أنشط فيها بشكل تطوعي كممثل لمصلحة الجمهور، الأمر الذي أحدث تحولا في السنوات الثلاث الأخيرة.

وقد قمنا من خلال اللجنة المذكورة بمسح للمباني التاريخية في البلدة التحتى (المسح لا يشمل المنطقة التي تجري فيها المخططات ولذلك توجد مشكلة هناك) وقد شمل المسح حي "وادي النسناس" بالكامل وحي "وادي الجمال" وسنقوم بمسح حي "الحليصة" قريبا.

كذلك أقوم في كل جلسة بالتصدي لمخططات وأنجح بشكل كبير على هذا الصعيد، ومن الجدير التنويه أنه في السابق لم يكن انتباه ووعي للموضوع والأحزاب العربية التي شاركت في الائتلاف أهملت هذه القضية بينما نقوم اليوم نقوم بالتّصدّي لهذه المخطّطات في إطار عمل مِهنيّ وجماهيريّ موحّد ومنظّم، ضمن التّكاتف والتّمثيل السّياسيّ الواعي والرّافض لهذه المخطّطات، فهذه مسؤوليّتنا التّاريخيّة نحو الأجيال القادمة.


د. عروة سويطات: هو مخطط مدن، وباحث في مجال التخطيط والأقليات والمجموعات الاجتماعية، وحاصل على الدكتوراة في تخطيط المدن والمناطق من كلية الهندسة المعمارية وتخطيط المدن في معهد التخنيون. وهو باحث مكانة الأقليات والمجموعات الاجتماعية في نظريات وممارسات التخطيط في البلاد والعالم، عمل كباحث في كلية الهندسة المعمارية وتخطيط المدن في معهد العلوم التطبيقية – التخنيون وأصدر كتاب حول "دور المجتمع المدني في التخطيط لدى الشعوب الأصلانية" من مركز أبحاث المدن والمناطق في التخنيون. وعمل أيضا كباحث في مركز الأبحاث الدولي "كارنجي للسلام العالمي" في واشنطن، وهو عضو في لجنة المحافظة على المباني التاريخية في بلدية حيفا، كعضو خبير في مجال التخطيط.

التعليقات